موضوع عجبني فحبيت انقله

...................

آخر سنوات الخلافة العثمانية
مصطفى كمال مؤسس الدولة التركية الحديثة، المنقذ المخلّص الذي أخرج الأتراك من بعد الحرب العالمية الأولى من حطام الهزيمة والتمزق، والغزو والاحتلال الذي شاركت فيه جيوش الحلفاء من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان .. والذي حقق انتصارات حربية باهرة في سلسلة من المعارك الكبرى تعتبر معجزات حقيقية بالمقاييس العسكرية، بعد أن قاد المقاومة من أنقرة، وبمعونة الوطنيين الأتراك ذلك الشعب العنيد المقاتل على مرّ التاريخ، حتى استطاع بعد تضحيات وكفاح مرير دحر المحتلين وتحرير الأناضول وعقد اتفاقية صلح (لوزان) بعد الحرب العامة، وقد كان له شفيع من مواهبه وبطولاته وما جُبِل عليه من صلابة وعزيمة وتصميم وشجاعة وإرادة فولاذية، ورغبة مخلصة في تخليص الأتراك من ظلام العهد السابق ووضعه على أعتاب العصر الحديث، ورؤية سياسية واقعية تعرف حدود قوتها الذاتية وموازين القوى الإقليمية والدولية، ولا تطمح في إنجاز أحلام مسرفة يضيق الواقع وحدود الإمكان عن تحقيقها .. ليؤسس دولة قومية مزدهرة اقتصاديا وسياسيا ومتحرّرة فكريا واجتماعيا، وذلك في إطار الحدود الطبيعية للشعب التركي، تتمتع فيها بالسيادة الكاملة وبعيدا عن التدخلات الخارجية ...

ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك بدون فصل السلطنة عن الخلافة ثم إلغاء الخلافة العثمانية نهائيا عام 1924م وإخراج السلطان وعائلته ونفيهم من استانبول .. ذلك السلطان العاجز ( سواء كان وحيد الدين أو عبدالمجيد) العاجز المستسلم , والمهزوم نفسيا أمام الإنجليز والمعتقد بعدم جدوى المقاومة والكفاح لانتزاع الاستقلال وفرض أفضل الشروط الممكنة، بل والمتواطئ مع الانجليز هو وحاشيته من رجال الدين الدجّالين المخدّرين الاستغلاليين الذين وقفوا ضدّ أماني الشعب وتطلعاته، ووزعوا بيانات التكفير والزندقة ضدّ مصطفى كمال وحكومة أنقرة الوطنية، وقاموا بتجييش وتحريض البسطاء باسم الدين ..

ولكن كيف كان موقف العالم الإسلامي بعد هذا الفراغ الناتج من إلغاء الخلافة التي استمرت على مدى التاريخ الإسلامي من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحتى السلطان عبدالمجيد وكانت رمزا لوحدة الأمة الإسلامية نظريا على الأقلّ ؟؟!

لاشكّ أنها كانت صدمة عاطفية أكثر منها عقلانية أو سياسية، بالرغم من قيام محاولات فاشلة وغير عملية لإحياء تلك (الخلافة) في مصر أيام الملك فؤاد وفي الهند، وكلها مستعمرات إنجليزية آنذاك .. ولكن مالا يجب إغفاله أن الخلافة العثمانية التي بلغت أوج القوة والمجد والفتوحات في القرنين السادس عشر والسابع عشر بدأت في التراجع التدريجي على مدار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع زيادة في درجة الاستبداد والجمود الفكري، ومحاربة الإصلاح والتحديث والحركات التنويرية، ثم تعطيل الدستور بعد إصداره بقليل على يد السلطان عبدالحميد لأكثر من ثلاثين عاما بعد هزيمة العثمانيين أمام الروس، ولم يرجع (الدستور) الموقوف إلا بعد خلعه من السلطة .. ويستمرّ الخط البياني للأتراك العثمانيين في الانحدار نحو الهاوية، مع ما صاحب ذلك من زيادة الاختراقات والتدخلات الأجنبية في شؤوون الدولة العثمانية بصورة تنتهك السيادة، وذلك تحت شعار حماية الأقليات المسيحية في البلقان والعالم العربي، حتى أنه لا يتمّ تعيين حكام الولايات العثمانية في البلقان إلا بعد مواقفة بريطانيا وفرنسا والدول المسيحية عليهم .. وكانت خاتمة المطاف هي الهزائم العسكرية التي مُنِي بها العثمانين في الحرب العالمية الأولى على مختلف الجبهات، وفقدانها لمعظم ممتلكاتها في البلقان والعالم العربي .. بل واحتلال حاضرة السلطنة العثمانية نفسها (الآستانة) بواسطة الجيوش الانجليزية والحليفة ...

بعبارة أخرى لم يقم مصطفى كمال بتصفية إمبراطورية كبرى قويّة والتخلّي عنها، إذ تمّ تصفيتها بالفعل، ولكنه قام بتغيير نظام حكم داخلي خاص بالأتراك ( كما قال ذلك الشيخ المجاهد الجزائري عبدالحميد بن باديس) تخلّص فيه من تركة بالية أصبحت عبئا ثقيلا على الأتراك الذين دفعوا ضريبة باهضة من دماء الفلاحين والفقراء على مدى مئات السنوات في حروبها وغزواتها .. فالدولة العثمانية التي كانت في فترات القوّة سدّا عاليا حمى العالم الإسلامي من أطماع الاستعمار أربعة قرون تحوّل في النهاية إلى جدار متهالك مليئ بالثغرات التي يتسلل منها الاستعمار بمختلف الوسائل .. وقد ثار العرب بأنفسهم ضدّ العثمانيين الذين اتبعوا سياسة التتريك العنصرية في بلاد الشام والتي كان الردّ عليها هو ظهور الحركات القومية العربية لإنقاذ الهويّة العربية من المسخ والضياع، كما أن كل الإصلاحيين قد خاب أملهم في أصلاح أحوال السطنة العثمانية (أو الرجل المريض) بعد أن اضطهدتهم وناصبتهم العداء وسلطت عليهم شيوخها المرتزقة بفتاوى التكفير والتخوين والخروج من الدين، وهذا مانال جمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي، والسيّد السنوسي الذي كان يقول:" الأتراك والإنجليز ؟؟! إني أقاتلهم سويّا ! " ، والمجاهد سلطان الأطرش الذي كان يقول عنهم :" أسقط وأوحش دويلة بالعالم ! " .. وبقية العرب الذين كانوا يقولون في أمثالهم:" ثلاث خُلقن للجور والفساد: القمل والترك والجراد ! " ...

ومن الطبيعي أن تختلف الأراء في تقييم مصطفى كمال وإنجازاته .. ولكن الملاحظ أن أغلب الهجوم والتحامل والتشويه على سيرته يأتي من تيار (الإسلام السياسي) وليس من مدرسة (الإصلاح الإسلامي) التي حافظت على رؤية متوازنة وتقدير أكبر ، أما الأتراك فهو بالنسبة لهم خطّ أحمر، وهو عندهم زعيم وطني وبطل قومي ومنقذ تاريخي ومحبوب أيضا بالرغم من مساوئه الشخصية ..



أمير الشعراء أحمد شوقي بين المدح والانتقاد
أيقظت انتصارات (الغازي) مصطفى كمال المتلاحقة على اليونانيين والحلفاء، وصولا إلى مؤتمر (لوزان) وشرط الصلح، كثيرا من الآمال ومشاعر الفخر والزهو في العالم الإسلامي، وقد تجاوب معها أحمد شوقي مرحّبا بقصيدة طويلة جاء منها:

الله اكبر كم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدّد خالد العربِ
صلحٌ عزيزٌ على حربٍ مظفرةٍ ... فالسيف في غمده والحق في النُصُب
يا حسن أمنيّة في السيف ما كذبت ... وطيب أمنيّة في الرأي لم تخبٍ
خطاك في الحق كانت كلها كرما ... وأنت أكرم في حقن الدم السرِب
لم يأتِ سيفُك فحشاءً ولا هتكت ... قناك من حرمة الرهبان والصُلُب
سئلتَ سلما على نصرٍ فجدتَ بها ... ولو سئلت بغير النصر لم تجب
مشيئةٌ قبلتها الخيلُ عاتبةَ ... وأذعن السيفُ مطويّا على عضب
أتيتَ ما يشبه التقوى وأن خُلِقت ... سيوف قومك لا ترتاح للقرب
ولا أزيدك بالإسلام معرفة ... كل المروءة في الإسلام والحسب
منحتهمُ هدنةَ من سيفك التُمِست ... فهب لهم هدنةَ من رأيك الضَرِب
.............................. .......................
.............................. ......................
تحيةَ أيها الغازي وتهنئةَ ... بآية الفتح تبقى آية الحقب
وقيّما من ثناء لا كِفاء له ... إلا التعجّب من أصحابك النُجُب
الصابرين إذا حلّ البلاء بهم ... كالليث عضّ على نابيه في النُوَب
والجاعلين سيوف الهند ألسنهم ... والكاتبين بأطراف القنا السُلُب
قوّاد معركة، ورّاد مهلكةٍ ... أوتاد مملكةٍ، آساد محتَرَب
بلوتهم فتحدّث: كم شددتَ بهم ... من مضمحلّ ؟ وكم عمّرت من خرِب ؟
وكم ثلمت بهم من معقلِ أشبٍ ... وكم هزمت بهم من جحفلٍ لجب
وكم بنيتَ بهم مجدا فما نبسوا ... في الهدم ما ليس في البنيان من صخب
من فلّ جيشٍ، ومن أنقاض مملكةٍ ... ومن بقية قومٍ جئتَ بالعجب
أخرجتَ للناس من ذلّ ومن فشلٍ ... شعبا وراء العوالي غير منشعب
لما أتيتَ ببدرٍ من مطالعها ... تلفّت البيتُ في الأستار والحُجُب
وهشّت الروضةُ الفيحاءُ ضاحكةَ ... إنّ المنوّرة المسكيّة الترب
ومسّت الدارُ أزكى طيبها وأتت ... باب الرسول، فمسّت أشرف العُتُب
وأرّج الفتحُ أرجاء الحجاز وكم ... قضى الليالي لم ينعم ولم يطب
وازّينت أمهات الشرق، واستبقت ... مهارجُ الفتح في المؤشيّة القُشُب
هزّت (دمشق) بني (أيّوب) فانتبهوا ... يهنّئون (بني حمدان) في (حلب)
ومسلمو (الهند) و(الهندوس) في جذلٍ ... ومسلمو (مصر) والأقباط في طرب
ممالكٌ ضمّها الإسلام في رحمٍ ... وشيجةٍ، وحواها الشرق في نسب
من كل ضاحية ترمي بمكتحلٍ ... إلى مكانك، أو ترمي بمختضب
تقول: لولا الفتى التركيّ حلّ بنا ... يومٌ كيوم يهودٍ كان عن كثب


ولكن بعد إلغاء الخلافة حزّ في نفس شاعرنا العثماني الهوى السلطاني الميول (أحمد شوقي) فنظم قصيدة بكائية يرثي بها الخلافة، ولكن في الوقت الضائع، ويعتذر فيها من مدائحه السابقة للغازي مصطفى كمال جاء فيها:

عادت أغاني العرس رجعَ نواحِ ... ونعيتِ بيسن معالم الأفراح
كُفّنتِ في ليل الزفاف بثوبه ... ودُفِنت عند تبلّج الإصباح
ششُيّعت من هلع بعبرة ضاحكٍ ... في كل ناحية، وسكرة صاح
ضجّت عليك منابرٌ ومآذنٌ ... وبكت عليك ممالكٌ ونواح
الهندُ والهةٌ، ومصر حزينةٌ ... تبكي عليك بمدمعٍ سحّاح
والشام تسأل، والعراق، وفارسٌ ... أمحا من الأرض الخلافةَ ماحي ؟
وأتت لك الجُمع الجلائلُ مأتما ... فقعدن فيه مقاعد الأنواح
يا للرجال لحرّة موؤدةٍ ... قُتِلت بغير جريرة وجُناح
إِنَّ الَّـذين أَسَـتْ جراحَكِ حربُهم ... قـتـلتْك سـلمهمُ بـغير جِـراح
هـتكوا بـأَيديهم مُـلاءَةَ فخرهِم ... مَـوْشِـيَّةً بـمـواهب الـفـتاح
نـزعوا عـن الأَعناق خيرَ قِلادة ... ونَضَوْا عن الأَعطاف خير وِشاح
حَـسَبٌ أَتـى طولُ الليالي دونَه ... قـد طـاح بـين عشيةٍ وصباح
وعَـلاقَةٌ فُـصِمَت عُرَى أسبابها ... كـانـت أَبـرَّ عـلائقِ الأَرواح
جَمَعَت على البرِّ الحُضورَ، وربما ... جـمَعتْ عـليه سـرائرَ النُّزَّاح
نظمت صفوفَ المسلمين وخَطْوَهم ... فـي كـلِّ غُـدوةِ جُمعةٍ ورواح
بـكت الصلاةُ، وتلك فتنةُ عابثٍ ... بـالشرع، عِـرْبيدِ القضاءِ، وَقاح
أَفـتى خُـزَعْبِلَةً، وقـال ضلالةً ... وأَتـى بـكفر فـي الـبلاد بواح
إِنَّ الـذين جـرى عـليهم فـقهُهُ ... خُـلـقوا لِـفقه كـتيبة وسـلاح
إِن حـدّثوا نطقوا بخُرْسِ كتائبٍ ... أَو خـوطبوا سـمِعوا بصُمِّ رِماح

اسـتغفرُ الأَخـلاقَ، لستُ بجاحدٍ ... مـن كـنتُ أَدفـعُ دونَه وألاحي
مـا لـي أُطـوّقُهُ الملامَ وطالما ... قـلَّدتُه الـمأْثورَ مـن أمـداحي
هـو ركـنُ مملكة، وحائطُ دُولةٍ ... وقـريعُ شـهباءٍ، وكـبشُ نِطاح
أَأَقـولُ مَـن أَحيا الجماعةَ مُلحِدٌ ... وأَقـول مَـن رد الحقوقَ إباحي
الـحقُّ أَولـى مـن وليِّك حرمةً ... وأَحـقُّ مـنك بـنصرةٍ وكِـفاح
فـامدح على الحقِّ الرجالَ ولُمْهُم ... أَو خَـلِّ عـنك مَـواقفَ النصّاح
ومِـن الرجالِ إِذا انبريتَ لهدمهم ... هـرمٌ غـليظُ مـناكِبِ الـصُّفّاحِ
فـإِذا قـذفتَ الـحق فـي أَجلاده ... تـرك الصراعَ مُضعْضَعَ الألواح
أَدُّوا إِلى الغازي النصيحةَ يَنتصحْ ... إِن الـجوادَ يـثوبُ بـعد جِماح
إِن الـغرورَ سقى الرئيسَ بِراحِه ... كـيف احتيالُك في صريع الراح
نـقل الشرائعَ، والعقائدَ، والقرى ... والـناسَ نـقلَ كتائبٍ في السّاح
تـركتْه كـالشبح الـمؤلَّهِ أُمَّـةٌٌ ... لـم تَـسْلُ بـعدُ عـبادة الأشباح
هُـم أَطـلقوا يـده كقيصرَ فيهم ... حـتى تـناول كـلَّ غـيرِ مباح
غـرَّته طـاعاتُ الجُموعِ، ودولةٌٌ ... وجـد الـسوادُ لها هَوَى المُرتاح
وإِذا أَخـذتَ الـمجدَ مـن أُمِّـيةٍ ... لـم تُـعطَ غـيرَ سَـرابِه اللّماح

مــنْ قـائِلٌ لـلمسلمين مـقالةً ... لـم يـوحها غيرَ النصيحة واح؟
عـهدُ الـخلافةِ فِـيَّ أَوّلُ ذائـدٍ ... عـن حـوضها بـبراعةٍ نضَّاح
حـبٌّ لـذاتِ اللَّهِ كان، ولم يزل ... وهـوىً لـذاتِ الـحقِّ والإِصل
إِنـي أَنا المِصباحُ، لست بضائع ... حـتى أَكـونَ فـراشةَ المصباح
غـزواتُ (أَدهـم) كُـلِّلَت بذوابِلٍ ... وفـتوحُ (أَنـورَ) فُـصِّلت بِصفاح
ولَّـتْ سـيوفُهما، وبـان قناهُما ... وشـبا يَـراعي غيرُ ذاتِ بَراح
لا تَـبذلوا بُـرَدَ الـنبي لِـعاجزٍ ... عُـزُلٍ، يـدافَعُ دونَـه بـالراح
بـالأَمس أَوهى المسلمين جراحةً ... والـيوم مـدّ لـهم يَـدَ الـجرّاح
فـلـتَسمَعُنّ بـكل أَرضٍ داعـياً ... يـدعو إِلـى الـكذّابِ أَو لسَجاح
ولـتـشهدُنّ بـكل أَرض فِـتنةً ... فـيها يـباعُ الـدِّين بـيعَ سَماح
يُـفتَى عـلى ذهبِ المُعزِّ وسيفِه ... وهـوى النفوس، وحِقْدِها الملحاح

منقووووووول