رأيت أمس في طلعة الشمسية في المهاجرين (طنبراً) محملاً بالحجارة، يجره بغل هزيل، واقفاً وسط الطريق، وصاحبه أخذ برسنه، وجعل يشده ويصرخ به، وهو يحاول السير فلا يستطيع، فجن جنون (الطنبرجي)، وأخذ يشتم البغل، ويلعن أباه، ويسب دينه، ثم أخذ سوطه ونزل به ضرباً على وجهه، لايبالي أين أصاب منه: أنفه أم عينه أم فمه، والحيوان المسكين يتلفت يمنة ويسرة، يحاول أن يتفلت فتمنعه القيود، ثم تناول حجراً فرضخ به رأسه، حتى سال دمه، وسقط على الأرض..

يحسب الأحمق، أنه إذا اشتد على البغل ييسره، ويرد عليه قواه، لا يدري أنه يزيده ضعفاً، وأن السبيل لتسييره هو التخفيف عنه وإراحته، لاضربه وإيذاؤه، وأن (البطولة) ليست بضرب البغل المقيد الذي لا يستطيع أن يفر أو أن يرفس، بل بمواجهة الأسد المتوثب، ومقابلة الدب الجائع، وليست بالبطش بالضعيف، بل بمنازلة القوي، أما أن يؤدب المعلم تلميذه، فيقسو عليه قسوة جبار، يريد أن يهلك لا أن يصلح، ويربي الأب ولده فيضربه ضرب مجرم، لاضرب مرب، ويعامل الزوج امرأته معاملة (نمرود) عات، لا معاملة زوج حبيب، فهذا اسه في العربية (النذالة) لا (البطولة)..

وأن كل من حمل فوق طاقته سقط، سواء في ذلك الناس والدواب والجماد: الجدار الذي يركب عليه بسقف لاتحمله أخشابه ينهدم، والموظف الذي يكلف بنفقات لايتسع لها راتبه يسرق، والشعب الذي يطالب بضرائب لاتقدر عليها أمواله يفلس، وكل (طنبر) لايخفف عنه، يقف ويسقط (البغل) الذي يجره، وإن دفعته أيدي السالكين..

فهل نعتبر أم نكون مثل (طنبرجي) المهاجرين؟

* * *

علي الطنطاوي
نقلاً عن كتاب مقالات في كلمات، من طباعة دار المنارة للنشر والتوزيع، هاتف: 6603652