أحفظ من الصغر أن (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع)، ولا أقول إنه حديث، ولكن أشهد الآن، (وقد صار واقعاً بالنسبة لي، ما كان ذلك اليوم غيباً)، أن الخير فيما اختاره الله لي.

إني لأنظر إلى تلك المصيبة من وراء تسع وخمسين سنة مرت عليها، فأرى أن ما قدره الله علينا كان فيه النفع لنا. لقد تمرست بالحياة مبكراً، وذقت منها ألواناً، وخبرت الناس أصنافاً وأجناساً، وكانت الفائدة من ذلك القدر أكثر من الضرر.

لقد أدركت يومئذ، وتحققت اليوم، أن الحياة مثل الناعورة، هل ترونها في الصورة؟ دولاب كبير علقت به دلاء وسطول، يكون السطل منها ملآن وهو فوق، كما كنا على عهد أبي، فينزل فارغاً إلى الحضيض، كما نزلنا بعده.

فمن كان قصير النظر ظن أنها النهاية، ومن دقّق وحقّق، رأى الدولاب يدور، فما نزل يصعد، وما فرغ يمتلئ.

وإن هذي هي الدنيا: ارتفاع وانخفاض، امتلاء وفراغ، فقر بعده غنى، وغنى قد يأتي بعده الفقر، لا العالي يبقى فوق، ولا الواطي تحت، ولا يدوم في الدنيا حال، والدولاب دوار...

الأحمق يظنها حظوظاً ومصادفات، والعاقل يدرك أنه عمل متقن، فلا البناء الذي يحمل الناعورة أقامه الحظ، ولا حركتها بنت المصادفات، لكنها هندسة محكمة، وحساب دقيق.

ما يعطى أحد في هذه الدنيا ولا يحرم، ولا يعلو ولا يهبط، إلاّ لحكمة بالغة، وأمر مقدَّر، سطَّره مُقَدِّره في كتاب. فمن اهتدى إلى هذه الحقيقة، واطمأن إلى أنه عادل لا يظلم، حكيم لا يعبث، سكن واستراح.

ومن أنزل غضبه بخشب الناعورة أو بحديدها، يحسب أنها هي أفرغت إناءه، وأراقت ماءه، عذب نفسه بها، ولم ينل منها منالاً.


علي الطنطاوي
من مجموعة الذكريات الجزء الأول.. صفحة 184
تطلب المنشورات من دار المنارة للنشر والتوزيع، هاتف: 6603652