ما أعجب الإنسان!
ما أعجب حياة الإنسان!

لقد سألوني عشرين مرة في درس الإنشاء: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ فكتبت أريد أن أكون طبيبًا، وأن أكون محاميًا، وأن أكون... وأن أكون، فما كان شيء مما أردت أن أكونه ولكن كان ما أراد الله أن أكون.

لا، لا أقول مقالة الجاهلين (أن الإنسان مسيّر)، إنه ليس مسيرًا بل هو مخير، لم يجبر الله كافرًا على الكفر، ولا عاصيًا على العصيان، بل أعطاه العقل الذي يفكر، والإرادة التي تقرر، والأعضاء التي تنفذ، وفتح أمامه الطريقين، وقال: هذا طريق الجنة، وهذا طريق النار.

من خرج من بيته، وكان سليم الرِّجلين، يستطيع أن يمشي إلى المسجد، ويستطيع أن يمشي إلى الخمارة، فأين الإكراه؟

يقول جون سيمون: أنا مخير وأنا أريد أن أرفع يدي، فمن يراهنني على أني لا أستطيع رفعها؟ إذا قدرت على رفعها، أقدر أن أرفعها لأنقذ غريقًا، أو لأغرق بريئًا، فهل العملان سواء؟ لا ليس الإنسان مسيرًا، بل هو حر مختار، يصنع ما يشاء ولكن في حدود الطاقة البشرية، السيارة تمشي، ليست كالصخرة الراسية، ولكنها تمشي في الطريق المعبد، وبالسرعة المحدّدة. لا تصعد درج العمارة، ولا تسابق (البوينج). وأنا مخير ولكن لا أقدر أن أجعل أنفي أجمل، ولا قامتي أطول ولا أن أجعل أمسي يعود.

الإنسان مثل الزورق في البحر، يسيره راكبه، يحدد وجهته، ويعين غايته، ولكن قد تأتي موجة عالية، أو ريح عاتية، فتوجهه جهة لا يريدها، إلى غاية لا يقصدها.

في يدي الآن، ورقة مصفرة من القدم، مكتوب فيها:
المملكة المصرية، دار العلوم العليا، نادي التمثيل والموسيقى، نمرة مسلسلة (70). وصل من حضرة العضو محمد علي الطنطاوي مبلغ 10 فقط قروش صاغ قيمة اشتراكه عن شهر أكتوبر سنة 1929 تحريرًا في 15 أكتوبر سنة 1929. الخاتم الرسمي، أمين الصندوق. محمد علي الضبع.

علي الطنطاوي ممثل أو موسيقي! وتصورت ماذا تكون خاتمة هذه القصة التي بدأت بهذا الوصل لو هي اكتملت فصولاً، إلى أين كان يصل بي هذا الطريق الذي وضعت رجلي في أوله يوم صرت عضوًا في نادي التمثيل والموسيقى لو أني تابعت السير فيه؟

كنت أبدأ فأمثل في المدرسة، ثم أشارك في رواية على المسرح، ثم أدخل فرقة من الفرق، ثم يسجل اسمي في القائمة التي تبدأ بجورج أبيض لتنتهي بإسماعيل ياسين، فيكون علي الطنطاوي اليوم ممثلاً عجوزًا متقاعدًا، يعاشر النساء، ويشهد الرقص، ويسهر الليل وينام النهار، ويعود بلا صحة ولا مال ولا دنيا ولا آخرة. ولم يكن يحول بيني وبين هذه النهاية شيء، فالاستعداد له في نفسي كبير، والرغبة فيه قوية، ولكن الله صرفني عنه.

أصبحت يومًا فإذا خاطر قوي لم أملك له دفعًا يدفعني لترك دار العلوم، ونادي التمثيل فيها، والعودة إلى دمشق وكان هذا الخاطر هو الموجة التي حولت زورقي، إلى ما هو خير لي، فاللّهُمَّ لك الحمد.

علي الطنطاوي
مجموعة الذكريات الجزء الأول: صفحة 277 و 278
تطلب المنشورات من دار المنارة للنشر والتوزيع، هاتف: 6603652