عاشت أمي سبع سنين بعد أبي، ما لها شاغل إلا أولادها تطعمهم هي وتلبسهم وتحثني على أن أدارسهم دروسهم، وأراجع معهم كتبهم، لأنها لم تكن متعلمة ولم تدخل المدرسة كما دخلتها عمتي من قبلها. وقد زدت همها باشتغالي بالقضية، وإذا قيل القضية فالمراد قضية الاستقلال، ومحاربة الاحتلال، فكانت كلما ذهبت أخطب في اجتماع، أو سمعت أني قدت مظاهرة، أو دفعت الشباب إلى تحقيق إضراب، أو كتبت مقالة مثيرة، تهاجم الحاكمين، طار قلبها شعاعاً، خوفاً عليّ، ولما وقفت في إدارة الشرطة مرة، وفي مخفر (الخراب) مرة، جاء من أخبرها، فوضعت عليها ملاءتها وذهبت إلى ابن أخيها الشيخ شريف في مدرسته فأبى أن ينجدها، وقال لها: عندي درس، فشتمته وشتمت الدرس الذي يشغله عن نجدة ابنها، والشيخ شريف أخوها من الرضاع، وسنينها ورفيق طفولتها، وكان يحاول ضربي أحياناً، فتهجم عليه كأنها الدجاجة يعتدى على فراخها، فتنفش ريشها، وتعلي صوتها، وتهدد بمنقارها، ولو كان المهاجم أقوى منها قوة، وأمضى سلاحاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
إني لا أزال في (ذكريات) سنة 1931. في هذه السنة رأيت أشد يوم مر عليّ في عمري، وهو يوم 14/7/1931 الذي بقيت مرارته في نفسي حتى جاء يوم أشد منه وأقسى هو يوم 17/3/1981. الأول ماتت فيه أمي في مستشفى كلية الطب في دمشق، بإهمال جراح أخذناها إلى عيادته، وفي الثاني قتلت بنتي وهي وحيدة في بيتها في (آخن) في ألمانيا برصاص مجرم معتد اقتحم عليها بيتها، لم نعرفه فنثأر منه، لكن الذي يعرفه ويعرف من أرسله لن يهمله.
أستطيع أن أتحدث عن اليوم الأول لأن مرور نصف قرن جعل الجرح يندمل وإن لم يلتئم، والألم يخف وإن لم يذهب، والقلم يتحرك في الكتابة عنه وإن لم ينطلق.
أما الثاني فلا.. لا أستطيع، فالجرح فيه أعمق، والألم أقوى، حتى أنه ليكاد يهوّن عليّ الأول، ومن قال لكم إن الإنسان يحب أمه وأباه، مثلما تحبه أمه ويحبه أبوه، فلا تصدقوه، وكيف أكتب عنها، وأنا كثيرًا ما أغفل عن نفسي، فأوغل من حيث لا أشعر في سبحات الخيال فأتوقع أن أسمع الهاتف يرن فيعلمني أن خبر موتها لم يصح، أو أن آخذ جرائد الصباح فأجد فيها تكذيبه، بل ربما توهمت أني سأكلمها كما كلمتها قبل الحادث بساعات، فلما علمت أنها وحدها في الدار خفت عليها فراحت تطمئنني، بنفسيتها المتفائلة دائماً، ولهجتها السريعة المتحمسة دائماً، تخبرني أنها في أمان، وأنّ الباب لا يفتح إلا إن سمعت صوت الطارق وعرفت شخصه. ما ظننت أن المجرم سيرغم جارتها على أن تطرق له هي الباب ليدخل منه هو...
بطل يحتمي بامرأة.. هذه هي بطولة المجرمين!
أعود إلى حديث أمي، أعود إلى المرّ فراراً مما هو أمرّ، أما حدث بنتي فما أحسب أني سأفتحه يوماً، لأني لن أعيش حتى يندمل الجرح وينطلق القلم فليبق المصاب لي وحدي، أتجرع عذابه وأرجو ثوابه، أعود إلى ذكر أمي وما نسيتها ولا غاب عني يومها، إني أرى تفاصيل الفاجعة كأنها (فلم) يمر أمامي، بالعرض البطيء الذي يوضح دقائق حركات الممثلين، وملامح وجوههم. ولكنه لا يكشف خلجات نفوسهم، لأن هذا شيء ما وصلت إليه صناعة الأفلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت ها هنا منازل أهلي. هنا كان مسقط رأسي.
هنا ولدت وأمضيت فجر حياتي، وإلى هنا رجعت لما غابت شمس اليوم الأول من هذه الحياة بموت أبي، ثم رجعت إلى هنا لما غربت شمس اليوم الثاني بموت أمي. لما خرج صبري القباني من غرفة العمليات، فقال لي بنظرات من عينيه الغارقتين بالدموع، وبحركات اليأس من يديه، إنها ماتت، وقفت كالذي ضرب على رأسه، ففقد الوعي وهو ينظر. عيناي مفتحان ولكني لا أرى شيئاً. وقفت وأحسست كأن قد وقف معي الزمان. (لامارتين) في قصيدة (البحيرة) استوقف الزمان في ساعة الوصال. وحثّه على الإسراع في وقت الكرب. ولكن زماني وقف بي وأنا مكتئب مكروب لا أستطيع أن أعود إلى الأمس فأتصور أمي وهي بيننا، وهي عماد بيتنا، وهي تعيش معنا، ولا أستطيع أن أتصور الغد، كيف يكون غدي، وقد تركتنا أمي؟
لقد بكى صبري القباني على أمي لأنه كان يوماً مثل أخي، ولعله بكى فيها أمه. لقد كان يعرف أمي، كانت كلما غبت سألته عني، وكانت تعطف عليه كأنه ابنها. وكان رحمه الله قد حرم جوار أمه. أيام صباه.
تعطل فكري فلم أعد أفكر، كانت الجرعة أكبر من أن أسيغها، وقفت في حلقي فلا أنا استطعت أن أبتلعها، ولا أنا أملك أن ألفظها، لم أقل شيئاً. لم أبك. لم أصرخ. صرت كأني قد جمدت فتولى (صبري) الإمساك بي وإخراجي، وانقدت إليه أمشي معه كأني أمشي في نومي. وجاء الدكتور نظمي القباني أستاذ الجراحة في كلية الطب، وهو ابن محاسب المعارف الأستاذ مصطفى القباني، وليس من أسرة الدكتور صبري القباني، وأنا أذكر الآن أنه قال كلاماً طويلاً، عرفت أنه يواسيني به ويعزيني، ويقول إنه بذل الجهد، لكت إرادة الله أقوى من طبه، ولكني لم أفهم مما قال شيئاً. ولم أعلم إلى الآن (صدقوني) كيف غُسِّلت وكُفِّنت. لقد تولى الأمر كله إخوة بررة، منهم من ذهب إلى رحمة ربه كـ....، ومنهم من بقي كـ....، وطائفة من الشبان الذين كانوا يلازمونني:....
وما تنبهت حتى وقفنا للصلاة عليها في (جامع التوبة). ولي في هذا المسجد ذكريات، خالطت ثواني حياتي الأولى، فيه وفي هذه المدرسة القائمة أمامه، قطع من عمري، من عهد طفولتي، هنا رحمني الله فسال دمعي، إن الدموع رحمة، فلا تخجلوا يا أيها المحزونون إن تبكوا، فإن حرقة القلب لا تطفئها أنهار دمشق السبعة، ولكن يطفئها، أعني أنه يخفف من حرها سفح الدموع، ولو كان البكاء ينقص من الرجولة، ما بكى سيد الرجال محمد، صلى الله على محمد. بكيت بلا صوت. كانت دموعي تتساقط وأنا صامت. بكيت أمي وإن لم أستوعب تماماً حقيقة مصابي بها، ولم أدرك مداه. بكيت أبي. بكيت من ذهب من أهلي، ومن صحبي. بكيت آمالي وأحلامي. بكيت مواضي أيامي. بكيت أسرتي الأولى التي كانت كلها هنا، فلم يبق منها إلا أنا.
أنا بعد أربع سنين أبلغ الثمانين (سنة 1403)، وقد توفي أبي وهو في السادسة والأربعين، وأمي في الثالثة والأربعين، ولكني كلما ذكرتهم أحسب أني صغرت حتى عدت طفلاً رضيعاً كان يأوي إلى صدر أمه، يطلب فيه الحليب غذاء جسده، والعطف طعام روحه، وكذلك يحس كل ولد مع أمه. واستشهدت بنتي وهي في السابعة والثلاثين ولكني كلما ذكرتها أشعر أنها صغرت حتى عادت الطفلة التي ترتمي على صدري، وتقعد في حجري، وكذلك يشعر كل والد مع ولده، مهما كبر الولد فهو في عين أبيه طفل.
ولكن هذه أسرار قلبي، فلماذا أعلنها للناس، هل أجعل مخدع حبي الأطهر، معرض صور يتجول خلاله النقاد والذين يحبون أن يتسلوا..
لقد استحضرت في ذهني، من ذكريات أمي وذكريات بنتي، ما يملأ صفحات من الجريدة، حفرت بأظافري في أنقاض الماضي في ذاكرتي حتى جمعتها. لقد استخرجت خيوط الثوب من بين ذرات التراب، خيطاً بعد خيط ثم أعدت نسجه لأدفئ به عظامي في شيخوختي، فهل أنزله في (سوق الحراج) لأبيعه بالمزاد؟ لا.. فلتبق لي وحدي، فما لأحد من القرّاء نفع فيها، وأنا إنما أحيا بها.
علي الطنطاوي
تطلب المنشورات من دار المنارة للنشر والتوزيع/ هاتف:6603652
مواقع النشر (المفضلة)