كانت دمشق يوم الجمعة صابرة تتجرع حزنها على إبراهيم، إبراهيم هنانو الزعيم الوطني الحلبي الذي كان أول من ثار على الفرنسيين في بداية انتدابهم على الشام، وكانت في صمت رهيب فلم تحرك ساكنًا حتى سمعت صوتًا هزّ دمشق وزلزلها يقول اختطفوا فخري البارودي.

فنفد الصبر المختزن، وانفجر الغضب المكتوم، لا لأنه فخري البارودي، بل لأن اختطافه كان كالقشة التي زعموا أنها قصمت ظهر البعير، والقطرة التي فاضت منها الكأس. والقطرة قطرة ولكن الكأس كانت ملأى، وأقبل أبناء دمشق بأيديهم، وأقبلت هذه الجيوش بحديديها ونارها، وكانت المعارك التي يصطرع فيها الحق والقوة، والدم والنار، والصدور والحديد، فبينما معركة من هذه المعارك على أشد ما تكون عليه. . وإذا. .

إذا ماذا؟ ليس على وجه الأرض من يستطيع أن يقدر ماذا كان إلاّ هؤلاء الشاميين الذين رأوا ذلك بأعينهم، وكنت أنا ممن رأى ذلك بعينه، وهؤلاء الفرنسيون الذين أكبروا جميعًا هذه البطولة التي لم يروِ مثلها تاريخ.

خمسون من الأطفال لا تتجاوز سن أكبرهم التاسعة. أطفال مدرسة حضانة ينبعون من بين الناس، يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة قد فر من مدرسته، وحقيبته ما تزال معلقة بعنقه، وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبي اللحام، وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعًا وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة، وهي تطلق النار وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة، التي تشبه الآلة السحرية التي عزف عليها الفارابي في مجلس سيف الدولة فأضحك وأبكى، يطلقون هذه الأنشودة البلدية المعروفة:
وصغارنا تحمل خناجر
وكبارنا عَ الحرب واصل
يا بالوطن يا بالكفن.

فوقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص، حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها.

هل تريدون أن أقسم لكم أن هذا المشهد كان واقعًا؟ وأنني كنت ممن رآه؟ رأيت الأطفال قد تسلقوا الدبابة وهي تطلق النار من مدافعها، فلما رأى الناس ذلك، اشتعل الدم في عروقهم، وفي أقحاف رؤوسهم، فأنشدوا أنشودة الموت المعروفة بالشام:
يا سباع البر حومي. . . .

وهم يرعدون بها فتهتز من جهجهتها الغوطة، ويرتجف قاسيون، وأقبلوا كالسيل الدفّاع. ولكنهم رأوا عجبًا، رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب، ثم انفتح برجها وخرج منه شاب فرنسي يبسم للأطفال، وفي عينيه أثر الدمع من التأثر ويداعبهم ويقدم لهم قطعة من الشكلاطة ثم يعود إلى مخبئه.

إنسانية قد توجد حتى في الدبابات؟!!

ورأيت في هؤلاء الصبية تلميذًا في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيرًا جدًا ما أظنه قد أكمل عامه السابع، فدعوته فأقبل حتى أخذ بيدي وجعل يرفع رأسه إليّ يحاول أن يتثبت من وجهي، فقلت:
- لماذا عملتم هذا يا بابا؟.
فقال: أخذوا فجغي الباغودي (يريد فخري البارودي).
قلت: ومن قال لك ذلك؟
قال: أمي، وقالت لي: هاللي يموت بالغّصاص (أي بالرصاص) يغوح (أي يروح) عالجنة.
قلت: وإذا أرجعوا فخري البارودي هل ترضى؟ قال: لا، خلي يغوحوا (يروحوا) ما بدنا إياهم، يريد فليذهب هؤلاء أيضًا لا نريدهم. فسكت فقال: أستاذ ليش الإسلام ما لهم عسكغ (أي عسكر)؟، فأصابتني كلمته في القلب، ووجدت كأن شيئًا جاشت به نفسي، ثم صعد إلى رأسي ثم وجدته في قصبة أنفي وآماق عيني، ودق قلبي دقًا شديدًا فتجلدت ومسحت عيني وحككت أنفي وقلت له: أنتم يا بابا عسكر الإسلام. قال: نحن (صغاغ) صغار، قلت: ستكبرون يا بابا، أنتم أحسن منا، نحن لما كنا صغارًا كنا نخشى (البعبع) ونخشى القط الأسود، وأنتم تهجمون على الدبابة، فالمستقبل لكم لا لهم.


علي الطنطاوي