كذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة نتسابق كالمجانين، ولكن لا ندري علام نتسابق، نعمل أبدًا من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا من الصباح، إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلاّ أن نفكر في أنفسنا، أو ننظر من أين جئنا، وإلى أين المصير؟.

فما الذي استفدته من عمري؟

طلبت المجد الأدبي وسعيت له سعيه، وأذهبت في المطالعة حدة بصري، وملأت بها ساعات عمري، وصرمت الليالي الطوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأت وأنا طالب كتبًا، من أدباء اليوم من لم يفتحها مرة واحدة لينظر فيها.

وكنت أرجو أن أكون خطيبًا يهز المنابر، وكاتبًا يمشي بآثاره البريد، وكنت أحسب ذلك غاية المنى وأقصى المطالب، فلما نلته، أو نلت بعضه، زهدت فيه وذهبت مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يشتهى ويتمنى.

وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كل مكان، وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب، وسماع ما تذيع، وأن تتوارد عليك كتب الإعجاب، وتقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كله، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟.

سـراب، قبض الريح، أغلق يدك على الريح ثم افتحها لا تلق فيها شيئًا.

لا والله، ما أقول هذا كلامَ أديب يتخيل، ولكن، وأحلف لكم لتصدقوا: ما أقول إلاّ الحقيقة التي أشعر بها.

أنا من خمسين سنة أعلو هذه المنابر، وأحتل صدور المجلات والصحف، وأنا أكلم الناس في الإذاعة من يوم أُنشئت الإذاعة، ويسمعونني ويرونني في الرائي من يوم جاءنا الرائي، ولطالما خطبت في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا وكثير من بلاد أوروبا خطبًا زلزلت القلوب، ومحاضرات شغلت الناس، وكتبت مقالات كانت أحاديث مجالسهم. ولطالما مرت أيام كان اسمي فيها على كل لسان في بلدي، وفي كل بلد عشت فيه، أو وصلت إليه مقالاتي. وسمعت تصفيق الإعجاب، وتلقيت خطب الثناء في حفلات التكريم، وقرأت في الكلام عني، لي وعليّ، مقالات ورسائل، ودرس أدبي ناقدون كبار، ودُرّس ما كتبت وما قالوا عني في المدارس، وترجم كثير منه إلى أوسع لغتين انتشارًا في الدنيا: الإنكليزية والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية، إي والله، فما الذي بقي في يدي من ذلك كله؟ لا شيء. صدقوني إن قلت لكم: لا شيء، وإني إن لم يكتب لي بعض الثواب من الله على بعض هذا أخرج صفر اليدين. إنني أقف في مطلع العام لأحاسب الحياة على ما أعطتني، وعلى ما أخذت مني، فأجد أنها أخذت مني عمري الذي هو رأس مالي، فإن لم أخرج من هذا العمر بعمل صالح، ومغفرة من الله، أكن قد خسرت كل شيء.

إن كل ما في الدنيا يذهب إن ذهبت، لا يبقى لي إلاّ ما قدمت لآخرتي، بسم الله الرحمن الرحيم: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

اللهمّ إني أمد يديّ إليك في مطلع هذا العام، أسألك أن تغفر لي ما مضى، وأن توفقني فيما يأتي، وأن تريني عز المسلمين واتحادهم، بعد أن رأيت تفرقهم وانقسامهم، وأن تختم لي بالحسنى، ورحم الله من القرّاء من توجه بقلبه مخلصًا إلى الله وقال: آمين.


علي الطنطاوي