هل نسيتم الغلام الذي يحمل فرش الخبز؟ أم أنا نسيته، ولم تبرح صورته خيالي، وهو ينظر إلى خبزه مرمياً على الأرض ملطخاً بالوحل، ويبكي في صمت.
ولقد رأيتها الليلة في أحلامي، رأيت طول ليلي دموعاً تنقط حارة مضطرمة، ودموعاً تجري جياشة مضطربة، وحيعما تلفت في منامي رأيت دموعاً، دموع الأطفال المظلومين، في البيوت والمدارس، والدكاكين والشوارع، وتألف من الدموع سيل عات طاغ، أبصرته يجرف البلد، وينسف هذه الأوضاع الإجتماعية القائمة بما فيها من شر، ومافيها من خير..
وصحوت مرتجفاً.. وإذا بالأمر حقيقة من صنع الواقع لا رؤى من عمل الخيال، وإذا هذا السائق الظالم، قد وضع في الغلام نواة الحقد على الهيئة الإجتماعية، والعزم على الإنتقام منها، وحول هذا القلب الصغير، من أداة للخير والصلاح، إلى قنبلة مدمرة، ستنفجر يوماً، فتهلك صاحبها، وتهلك معه الناس، وإذا المجرمون من أمثال السائق كثيون، منهم الأب الجبار والمعلم القاسي، والموظف المتكبر، وهذه النظم التي تقضي بالحرمان، على أطفال برآء ماجنوا ذنباً، وعطي أطفالاً آخرين أفانين النعيم.. وإن هذا الغلام الذي تركته الهيئة الإجتماعية عارياً حافياً، لتركب طفل مثله السيارة التي شريت بأموال الأمة، وحملته على رأسه هذه الأثقال، وسيرته ببؤسه وشقائه في طريق كل من فيه سعيد، والذي لم يستطع أن يدافع عن نفسه اليوم إلا بالدموع الصامتة، إن هذا الغلام سيقوى ويشتد ويصير رجلاً، وسيرد الظلم ظلماً أشد، والعدوان عدواناً أفظع، وسيدمر الهيئة الإجتماعية التي دمرته، وسيحرمها الإطمئنان كما حرمته التهذيب، وسيأخذ مالبيس له لأنه منع أن يأخذ ماهو له، ويبعدو على المال والعرض، وسيغدوا مجرماً يركب هواه، فلا يرد رأسه القانون، الذي لم يعودوه احترامه، ولا الدين الذي لم يعلموه أحكامه، ولا السجن ولا التعذيب.
فإذا أردتم أن تعرفوا مجرمي الغد الخطرين السفاكين، فابحثوا عنه في ثياب أطفال اليوم البائسين المطلومين، وارفعوا الظلم يرتفع الإجرام، وأذهبوا البؤس يذهب الخطر، واعلموا أن هؤلاء المجرمين الذين تمتلئ بهم السجون كانوا أطفالاً أطهاراً، وأن هؤلاء الأطفال المهملين المظلومين سيصيرون يوماً مجرمين أشراراً.
وأن رأس الإجرام، ومنبع الشر هو ظلم هؤلاء الأطفال، رأس الإجرام (السائق الجاني) والأب الجبار، والمعلم القاسي، واللصوص يسرقون أموال الفقراء، ولايجد القانون إليهم سبيلاً، فلا تستهينوا بدموع الطفل المظلوم، فإنها ستجتمع الدموع يوماً، فتكون سيلاً عاتياً جارفاً لايقف أمامه شيء.
* * *
علي الطنطاوي
مقالات في كلمات (المجموعة الأولى) ص17
تطلب منشورات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، من دار المنارة للنشر والتوزيع:6603652